السياسة
التعليمية الفرنسية وانعكاساتها على المجتمع الجزائري
خلال
الخمسين سنة الأولى التي أعقبت الاحتلال لم تعط السلطات الفرنسية أهمية كبرى
لمسألة تعليم الجزائريين ولم تبلور سياسة تعليم واضحة المعالم، فبعد مصادرة
الأوقاف ونفي العديد من العلماء، وترهيب الباقين، وترك الفرنسيين التعليم يموت دون
الإعلان عن ذلك رسميا، اشتغلوا بالاستيلاء على الأراضي، وتوظيف أبنائهم فيها
ومحاربة المقاومين، وأهملوا كل ما يتعلق بتعليم الجزائريين، حيث أنه ما بين 1830-
1880م، لم تكن لفرنسا سياسة تعليمية أو نموذج أو تجربة هادفة، بل اعتمدت على
مجموعة من التجارب التعليمية المتتالية كالتعليم المشترك، المدارس العربية
الفرنسية ومدارس البلديات المختلطة
وقد قدمت
بعض التقارير عن وضع التعليم من طرف مسؤولي المكاتب العربية، وأبدو آرائهم فيها،
والذي تتخلص في الاستمرار في إهمال التعليم العربي الإسلامي وعدم رد الأوقاف إليه،
كما كان هنالك اقتراح بتعليم مزدوج حيث تدرس فيه اللغة العربية لكن تبقى اللغة
الفرنسية عي السيدة في علومها وهذا ابتداءا من 1850 مع اقتراح أيضا التخلي عن
تعليم المدارس الريفية وكذلك إلغاء التعليم في الزوايا مع شرط كذلك مراقبة برامجه ومعلمه حتى لا يكون الزوايا مراكز
لمعاداة الفرنسيين
ويجب
التذكير أنه حتى سنة 1882-1883م،لم يؤسس نظام مدرسي أو تعليمي رسمي يهتم بتعليم
الجزائريين والعناية بثقافتهم، فالمهمة التعليمية كانت متروكة للإدارة المحلية الخاضعة للإدارات المحلية، والخاضعة
لتأثير ونفوذ المستعمرة الأوربية، وما يمكن ملاحظته أن التعليم تراجع وتدهوره في
قسنطينة مند الاحتلال فبعد عشر سنوات 1847، كاد يختفي التعليم في هذه المدينة
قسنطينة العريقة في خدمة العلم والعلماء، ولم يبقى من 600 أو 700 تلميذ في الثانوي
سوى 60 فقط، والمدارس الابتدائية التي كانت تعيش لم يبقى منها سوى ثلاثين.
كذلك ننوه
أن تدهور المستوى التعليمي في الجزائر في ذلك الوقت راجع لمقاومة المستوطنين لفكرة
تعليم الجزائريين الذين اعتبروهم أهالي، حيث جاءت تقارير من القادة العامين ما
يشبه العروض لحالة التعليم في الجزائر قبل
الغزو وبعده، لكن أيضا إعطاء إمكانية لتعميم الحلول على الطريق الفرنسية، كتلك
التي كانت تطبق في ذلك الوقت أو الفكرة العامة التي بدت واضحة تماما في ملخص الدوق
دومال، وهي التجديد الضروري للتعليم العربي التقليدي.
فمن
الجانب الثقافي قام الاستعمار بمحو كل السمات المميزة للمجتمع الجزائري، فقد هاجم
بطريقة خاصة الثقافة العربية الإسلامية التي كان يرى فيها القوة الرئيسية التي
كانت تقاوم العملية الرامية لقمع الشخصية، فقد كان يراد للتعليم التقليدي أن يقتني
شكلا أقل عداء للهيمنة الفرنسية، ولم يكن أحد يفكر في تطوير التعليم من النوع
الموحد في المتروبول، حتى أن اللغة الفرنسية أقل استعمالا، ولقد سعى الاستعمار إلى
ضرورة نقل الجزائريين من البداوة للحضارة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما حاولوا
أن يجعلوه صفحة بيضاء، ويحولوا الجزائر عن تطويق اللغة العربية، واستئصال الإسلام
ولقد
حاربت إدارة الاحتلال الفرنسي الثقافة العربية في الجزائر قصد إحلال الثقافة
الفرنسية كبديل لها، ولتحقيق هذا الغرض سارعت إلى إصدار العديد من التعليمات
والمراسيم والقوانين بهدف القضاء على اللغة العربية، وبتغير الوضع الثقافي الأصيل
بوضع ثقافي دخيل عن المجتمع الجزائري، وكان
الهدف من كل هذا هو ضرورة مكافحة الشخصية الجزائرية، ثم إن نشر الثقافة الفرنسية
لم يتم إلا ناذرا وقليلا، لأنهم كانوا يظنون أن هذه الثقافة الفرنسية تمثل خطر على
الاستعمار، وقد مارسوا في الحقيقة سياسة التضليل، وكانوا يجبرون الجزائريين على
ترك ثقافتهم وفي نفس الوقت يقنعونهم من الوصول إلى الثقافة الأوروبية وبالأخص
الثقافة الفرنسية.
وكان من
نتائج هذه السياسة الخطيرة أن تعرضت المؤسسات الثقافية الجزائرية التي تشرف أساسا
على التعليم إلى الغلق، والهدم مع انقطاع التموين، وهذا ما دفع إلى تخلي السواد
الأعظم من التلاميذ من الجزائريين على التعليم، أما العلماء فقط أجبروا على الهجرة
إلى بعض الدول العربية الإسلامية
ولقد تأسست
أول مدرسة فرنسية عربية في عهد الحكم العسكري الفرنسي في أول جوان من عام 1833
بالجزائر العاصمة، ومدرسة أخرى في عنابة، ثم جاء المرسوم الرئاسي المؤرخ في 14
جويلية من عام 1850 أقر بدوره الشروع في تأسيس المدراس الفرنسية في كل من المدن
التي تم احتلالها، خاصة المدن الكبرى منها الجزائر، وهران وقسنطينة وعنابة، وهذا
المرسوم كان وراء انتشار هذا النوع من المدارس على حساب مدارس التعليم العربي، ونشأت
المدارس الشرعية الفرنسية في سنة 1850، حيث صدر مرسوم إنشاء ثلاث مدارس واحدة في قسنطينة وأخرى في
تلمسان والثالثة بالمدية توضع تحت إشراف السلطات العسكرية، كان الهدف من هذه
المدارس حسب المستشرق ألفرديل هو إعادة الثقة للمغلوبين الجزائريين، وجلب الطلبة
الذين كانوا من قبل يتوجهون للدراسة في الجامعات الأجنبية وخصوصا المغرب
وإبتداء
من 1883 نضجت التجارب التعليمية الفرنسية وتبلورت في سياسة واضحة المعالم والأهداف،
وذلك بإصدار قانون 16 فبراير 1883م، في عهد وزير
التربية جول فيري (Fray Jules)، والذي نص على مجانية التعليم وتعميمه بين
الجزائريين، وكان للموقف الوطني دورها في نجاح السياسة التعليمية أو فشلها لأنه
يمثل خطر الزاوية في هذه السياسة، فإلى جانب العراقيل التي أعاقت مسيرة التعليم في
الجزائر كالموقف المعادي للمستعمرة، والموقف المتردد لحكومة باريس والجمهوريين في
نوعية التعليم الذي يكون مناسبا في الجزائر، كان للموقف الوطني أثره في السياسة
التعليمية
أما
نظام الحكم المدني في الجزائر كانت بداية
1871 بسقوط النظام العسكري والاستمرارية فب النظام الأول، ولكن بصورة أخطر بسبب
هيمنة المستوطنين على تسير مؤسسات الجزائر السياسة والاقتصادية، وهذا ما انعكس
سلبا على الوضع الثقافي الجزائري الذي
ازداد تدهورا، وهذا ما أكده أحد أقطاب الفكر العربي عام 1901 عندما زار الجزائر
وقد جاء على لسانه ما يلي " إن حالة التعليم التي تعكس الوضع الثقافي في
الجزائر سيئة ولو استمر الحال على هذا المنوال لحلت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية
في جميع المعاملات بل وربما تندثر العربية بالمرة.
وتتجه هذه
السياسة ضمن تيار إيديولوجي أسس لمشروع ثقافي استعماري متكامل، وهذا ما عرف
بالجزائريين الجدد والذي كانت غايته صناعة هوية جديدة للجزائريين الجدد
وإلغاء هوية الجزائريين الأصلية.
ولقد تمكنت نخبة من الجزائريين
الجدد ومن سار في ركبهم من تأسيس مكتبة وطنية متكاملة المعالم، يصون مقوماتها
الهوية الجديدة وتسوق إنجازاتها الحضارية، ويمكن استخلاص حجم النتائج الثقافية من
خلال المشروع المعلن والذي كان من السياسة ومن بعدها الاستقلال والخروج عن طوع
فرنسا.
ونخلص أن الفرنسيون غزو الجزائر
بالسلاح والعلم، فحققوا الاحتلال والاستعمار والاستيطان بالسلاح والجيوش وحققوا
نشر لغتهم ودينهم وعاداتهم وصحافتهم ومطبعتهم ومسرحهم ...إلخ بالعلم والاختراع،
وإذا كان الاستعمار شر الله فإن بعض الشر أهون من بعض، بعبارة أخرى حاول الاستعمار
الفرنسي وبكل الأساليب المتاحة إلى إحداث تغيرات جذرية في الحياة الثقافية للجزائر، ولقد أظهر الجزائريون بعض التحفظات في إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية،
بعد أن تبين لهم جليا دورها في القضاء على
شخصيتهم وكان موقفهم من التعليم يشتد باشتداد الإجراءات التعسفية الفرنسية ضد
التعليم العربي الإسلامي واللغة العربية
إن صمود
الثقافة العربية في الجزائر أرجعه العديد إلى إيمان المجتمع الجزائري باللغة
العربية كمعلم من معالمه الشخصية التي لابد من الدفاع عنها وصونها من العناصر
الداخلية، وإن الفضل في إعداد الدروس بالعربية يرجع إلى الأفراد والجمعيات
والزوايا المتواجدة في الأرياف والكتاتيب الملحقة بالمساجد في القرى والمداشر
والمدارس المنشأة في المدن، أما الدولة الفرنسية فقلما عملت لتدريس اللغة العربية،
ورغم ذلك فقد تمكنت السياسة الاستعمارية من تحطيم التعليم التقليدي وتراجع نشاطه
بحيث: " أن الحرب أدت إلى ضعف مستوى التعليم كما أن العلماء قد حملوا
السلاح أو هاجروا أو التزموا بيوتهم، وأدى
تدمير المساجد ودور العلم والمكتبات إلى شغورها في النشاط الثقافي
واختفت
المدارس والمساجد من جراء انعدام الصيانة وبسبب تحويلها إلى مصالح عمومية، ولسوء
الحظ فقد مسها الأذى العام الذي لحق بكل شيء، وهذا إما كانت نتيجة ارتفاع نسبة
الأمية والجهل بين السكان بهذه الحصيلة الهزيلة للسياسة التعليمية الفرنسية، والتي
تعكس الانتشار الواسع للجهل والأمية وقلة أو نذرة الإطارات والكفاءات البشرية
ويقول فرحات عباس في هذا الصدد:" جبهة التحرير الوطني كونت في ظرف ست سنوات
فنيين جزائريين يفوق عدد الذين كونتهم فرنسا في ظرف أكثر من قرن.
الجمعيات المسيحية وسياسة التنصير:
أهداف فرنسا التنصيرية :
لقد كان
للجانب الديني في احتلال الجزائر أثر كبير على الحملة وتنظيمها، فمن الأسباب
الهامة التي دعت فرنسا إلى الغزو هو دعواها إنقاذ المسيحية والمسيحيين من أيدي
القراصنة الجزائريين أو القضاء على عش القراصنة – الجزائر – حسب تعبيرها أيضا، حيث
كانت فرنسا تعتبر نفسها حامية الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك كانت تعطي أهمية كبيرة
لاحتلال الجزائر وتراه عملا هاما، ، وشعوب
البحر الأبيض المتوسط، ولم يكن الوضع الديني خلال فترة الاحتلال أحسن حالا من
الأوضاع الأخرى للجزائر، فهو الأخر ساءت حالة إلى درجة خطيرة جدا، حيث تعرضت المؤسسات
الدينية للهدم والتخريب والتدمير، وكان على رأس هذه المؤسسات المساجد والجوامع
والزوايا، ولم تحترم فرنسا المعاهدة التي حررها قائد الحملة دبورمان، ووقعها الدبي
حسين والتي جاء فيها:" إن السلطات الفرنسية ستحترم الأملاك والنساء والديانة
لكننا نجد الجنرال دبورمون يخطو خطوة إلى الوراء، يدفعه في ذلك التعصب الديني،
فبعد سقوط مدينة الجزائر بأيدي الفرنسيين سارع دبورمون إلى إقامة الصلاة بالقصبة
شارك فيها الجيش ورجال الدين، وخطب فيهم قائلا "لقد أعدتم معنا فتح باب
المسيحية لإفريقيا، ونتمنى في القريب أن نعيد الحضارة التي انطفأت فيها مند زمن
طويل".
وبذلك
يتضح لنا أن فرنسا عمدت مند الأيام الأولى لدخولها إلى الجزائر لانتهاج سياسة تبطش
فيها باليد الأولى وتقدم الدواء والغداء باليد الثانية وغرضها في ذلك نشر المسيحية
لتثبيت الوجود، ولقد ركز المبشرون جهودهم وكرسوا نشاطهم في البيئات والأقاليم التي
تعاني من الأزمات الاجتماعية مستغلين فقر الناس ليقدموا لهم المال، وجهلهم ومرضهم
ليبنوا لهم المدارس والمستشفيات متظاهرين أمامهم بالإنسانية وهكذا يمضي الغزو
الجديد بالأسلوب الجديد تحت شعار استعمار تباركه الصليبية وصليبية يمهد لها
الاستعمار.
ومن هنا يتبين
لنا مظاهر الروح الصليبية في الجزائر،إذ أن أول مظهر تمثل في ذلك الطلب الملح من
وزير الحربية "كيومونطونير" لسير في حملة عسكرية لغزو الجزائر بعد حادثة
المروحة، والذي تلى طلبه هذا على أسماع مجلس الوزراء بمحضر الملك شارل العاشر بتاريخ
14 أكتوبر 1827، وقد جاء على لسانه:" إن العناية الإلهية سمحت بأن تستشار
جلالتكم في قنصلكم (ديفال) من طرف أعتى أعداء المسيحية لذلك سيدي فأن العناية
الإلهية تدعوا لأغراض خاصة لانتقاء للدين والإنسانية ...وسوف نكون سعداء بمرور
الزمن ونحن نحضر الجزائريين بجعلهم مسيحيين في أن نمدنهم وذلك بجعلهم مسحيين ".
وهو ما أشار
إليه رئيس الوزراء الفرنسي الذي اعتبر أن سقوط الجزائر في أيدي الجيش الفرنسي
سيجلب جل الخدمات وأكثر الفوائد للمسيحية جمعاء"، ولم يكن بقية أعضاء المجلس
أقل حماسا وصليبية من وزير الحربية ورئيس الوزراء بل أجمعت الحكومة على دخول في
حرب ضد الجزائر تبين أن الملك شارل العاشر الكاثوليكي هو أكبر المدافعين عن
الكنيسة، ولقطع الطريق على البابا في طلبه لحماية من الانجليز، هذا وحاولت السياسة
الاستعمارية خلق سياسة جديدة، والتي عرفت إحياء المشاركة البربرية خلال الحكم
العسكري 1830-1870، وتجسدت هذه النظرة لأول مرة في موقف الملك شارل العاشر من
الجزائر بصورة عامة، وأكده رئيس الوزراء دي بولينياك على أن ما سيحققه جيش الملك
من انتصار لا يكون إلا في سبيل بعث المسيحية من جديد في أفريقيا القديمة، وبعث
كيان القديس أوغستين البربري، وهذا يعني حسب هذه النظرة عودة أفريقيا البربرية
الرومانية ثانية إلى حضن المسيحية وعودة البربر إلى أصولهم المسيحية
أما موقف
الجزائريين من هذه السياسة بشكل خاص ومن الحركة التبشيرية بشكل عام فقد بينوا
للمبشرين ولغيرهم من سلطات الاحتلال أنهم لا يرضون بالمسيحية بديلا عن الإسلام،
وأظهروا لهم زيف اعتقادهم من أن الدين لم يبلغ أعماق نفوسهم، بل بالعكس من ذلك،
برهنوا أكثر من مرة أن الإسلام في نفوسهم حتى ولو ابدعوا كل ما يمكن أن يبدعوه من
مسائل
وانطلاقا
من تمسك المجتمع الجزائري بدينه وتماسكه اجتماعيا صعب كثيرا مهمة إدارة الاحتلال في
التوسع داخل الجزائر حيث وجدت مقاومة شعبية قائمة على البعد الديني،كما كانت
الجزائر سد منيع في وجه التجنيس، حيث بين
الجزائريون للمبشرين أنهم أهل شرف ولا يرضون أن يدنس هذا الشرف ، فحين كان هدفهم نشر
المسيحية بين أبناء الجزائريين، أثبت لهم
الجزائريون بالمقابل أنهم طلاب علم ومعرفة فقط.
المحاولات
التنصيرية خلال الاحتلال الفرنسي
ترجع
الكثير من المعاجم اللغوية كلمة التنصير إلى الفعل "نصر" واشتقاقه: نصره
بنصره تنصيرا أي جعله نصرانيا وفي نفس السياق يقول صاحب الصحاح: " ونصره
وجعله نصرانيا"، وفي نفس السياق يقول الزبيدي:" وتنصر الرجل: دخل
النصرانية، وفي المحكم في دينهم، ونصره تنصيرا جعله نصرانيا "، ولقد واكب
التنصير الحملة العسكرية على الجزائر عام 1830، حيث اعتبرها رجال الدين حملة صليبية،ورؤوا أنه من الضروري بعث المسيحية
من جديد في الجزائر، لذلك باركوا الحملة واعتبروا الملك شارل العاشر ابنا إلهيا، لما
قاموا بتشجيع جنود الاحتلال على قتل المسلمين ونهب خيراتهم، وقد بدأت سياسة
التنصير باحتشام بين استمرارية المقاومة الشعبية التي كانت قائمة كما ذكرنا سابقا على البعد الديني، ولم تستطع
أن تحقق هدفها مع السنوات الأولى للاحتلال.
وهنا
يبدوا تداخل بين التبشير الذي ذكرناه أنفا والتنصير، فالتبشير أطلقه رجال الكنيسة
النصرانية على الأعمال التي يقومون بها لتنصير الشعوب غير النصرانية، ولا سيما
المسلمين ثم تحول التبشير داخل الشعوب المسلمة إلى غاية التكفير، حيث عملوا على إخراج المسلمين ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين.
ومع بداية
مرحلة الاحتلال الواسع، وظهور أبو الاستيطان الجنرال بيجو، وجد رجال الدين
المسحيين ضالتهم ومما قام به شخصيا أنه سلم للقس "بريصو" عدد من أبناء
الجزائر الأيتام الذين قتلت الحملات العسكرية أبائهم، مخاطبا إياه " حاول يا
أبي مسح هؤلاء الأطفال، وإن قمت بهذا العمل، فإنهم لن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا
النار علينا"
وإن إنشاء
المؤسسات التعليمية والمدارس هو أول عمل بدأ به المنصرون في الجزائر، حيث تمكنوا
من بناء مدارس تنصيرية في منطقة جبلية وعرة المسالك كمنطقة القبائل، أو في الصحراء،
وهو أكبر نجاح حققوه في مجال تأسيس نظامهم التعليمي وذلك بتأسيس خمسة عشر مدرسة
مابين ابتدائية أولية ومهنية يؤمها زهاء ألف تلميذ وتلميذة، وتتركز غالبيتهم في منطقة القبائل التي كانت محطة رئيسية للحركة
التنصيرية في الجزائر، وإن نجاح سياسة التنصير في الجزائر كان وراءها الكاردينال
لافيجري، حيث عمل على تنصير بعض أبناء الجزائر خاصة في منطقة القبائل، وقد يعود
نجاح هذه السياسة بالدرجة الأولى إلى
الأوضاع المزرية الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها سكان المنطقة، وهذا ما
جعل لافيجريوأعوانه يركزون على الطبقة الفقيرة والأيتام من خلال الاعتناء بهم
وتهيئتهم لقبول المسيحية بالطرق الماكرة قصد القضاء على معالم الدين الإسلامي وقد
تأسست مجموعة من الجمعيات التنصيرية في الجزائر ومنها جمعية الآباء والإخوان البيض،
والتي أسسها لافيجري سنة 1867، وذلك للمالمنكوبين
الجزائريين، ووضع لافيجري مجموعة من القواعد لضمان بقائها لزمن أطول كاستعمال
العمل الخيري، لأنه الوسيلة الوحيدة الأساسية للتبشير، وأن يكون شعار هذه الفرقة
المحبة والتكتل لأن في ذلك قوة تعمل على الوصول إلى الأهداف التنصيرية، وأن على
الفرقة التسلح بالصبر لأن العمل شاق وطويل.
وهنا يظهر
لنا أن الكاردينال لافيجري أخطر عنصر عرفته الجزائر في المجال الديني،حيث لعب
أدوار رئيسية مند وصوله إلى الجزائر 1867 في تنصير بعض السكان خاصة الأطفال
اليتامى، لذلك أولى اهتمامه بقضية بناء الأديرة والكنائس في إطار إرجاع مجد
الكنيسة الرومانية الإفريقية التي قضى عليها الفاتحون، ولقد دعم النظام المدني في
الجزائر سياسة "لافيجري" التنصيرية وهذا ماسمح له ما بين 1876-1878 من
تأسيس أكثر من 49 كنيسة و25 حورينة، ومن
أكبر الكنائس وأبرزها كنيسة سان جوزيف بباب الوادي.
وإلى جانب
دعم الحكومة المدنية له وجد أيضا من يسانده في سياسته، وهم المستوطنين مما سمح له
من تأسيس 68 كنيسة عام 1888، وارتفع العدد إلى 121 كنيسة 1892م، ولكن ورغم الجهود
التي بدلها الكاردينال لافيجري خلال فترة نشاطه بمنطقته لم يتمكن من تحقيق الأهداف
التي كان يرمي إليها،فبالرغم من تمكنه من استغلال السكان وجعلهم يقبلون على التعليم والمعالجة، إلا أنهلم
يستطيع كسبهم دينيا وبشكل جماعي، وبالصورة التي كان يتوقعها من قبل، فبالرغم من
الصبر والتفاني في أساليب الإغراء فإن المحاولات التنصيريةلم تكن لها نتائج أكثر
من التي تحصل عليها في المناطق الأخرى، فبهذا خدم قضيته الدينية التي أوكلت إليه.
وفي مقابل
ذلك لا يفوتنا ذكر بعض جوانب النجاح في نشاط الكاردينال لافيجري التنصيري، فرغم
إفلاسه النسبي وانحرافات رواده فإنه:
-
استطاع التمكن من النفاذ إلى الوسط
الاجتماعي للمجتمع الجزائري.
-
تكوين أسر مسيحية من السكان الجزائريين.
-
إنشاء العديد من المراكز التنصيرية.
-
استمالة المرأة القبائلية والتأثير فيها.
أهداف
السياسة التعليمية الفرنسية:
حاولت
السياسة الفرنسية في ميدان التعليم مند بداية الاحتلال تحقيق مجموعة من الأهداف
حشدت لها الإدارة الاستعمارية جيشا من
المعلمين ورجال الفكر والثقافة وعلماء الأنثروبولوجيا ويتجلى ذلك في:
استكمال
مسار التغلغل الاستعماري عن طريق غزو العقول بالمدرسة، التي كان قادة الاحتلال
يعرفون جيدا الدور الذي يمكن أن تلعبه في توجيه المجتمعات أخلاقيا وتربويا وثقافيا
وسياسيا، وكانت تهدف فرنسا من خلال إنشائها بعض المدارس وإظهار اهتمامها بالإسلام
والمسلمين، وهي الوحيدة القادرة على إعطائها الإسلام الحقيقي، الذي شوهته الطرق
الدينية، ولكنها جعلت من المدرسة وسيلة مثالية لتجريد الشعب الجزائري من شخصيته
العربية الإسلامية،وهي أداة أحسن وأنفع من استعمال القوة والضغط، كما عملت على
منافسة الزوايا الموجودة في البلاد المجاورة كالمغرب وتونس، وذلك بالإنقاص من
قيمتها ووزنها العلمي وبتخفيض عدد طلابها من الجزائريين، حيث عمدت فرنسا إلى إفراغ مناهج التعليم من محتواها في المدارس، ما من شأنه
إعداد جيل من الجزائريين يفقه في أمور دينيه وينمي ثقافته. وكانت السياسة التعليمية
الفرنسية تهدف إلى إنشاء جيل من
الجزائريين يخدمون الاستعمار بأبدانهم وعقولهم، وبذلك يسهل استيعابهم في المجتمع
الأوربي.
ومن أهداف
السياسة الفرنسية بسط الهدوء والسلام في البلاد وذلك بتقريب المجموعتين
"الأهلية" والفرنسية إلى بعضها البعض عن طريق المدرسة التي أصبحت وسيلة
في يد الإدارة الاستعمارية لوضع حد للمقاومة الجزائرية، ومسخ وتشويه تاريخ
وجغرافية الجزائر بتجاهلها أحيانا، وحرمان الجزائريين من دراستها دراسة صحيحة
وافية في المؤسسات التعليمية الحكومية والتدخل لإلغائها في المؤسسات التعليمية الحرة وبذلك إنكار للذات الجزائرية،
ويقول أحد المعمرين في هذا الصدد " يجب على المدرسة الفرنسية أن توجه مهامها
وتضرب بقوة ما هو وطني وديني، وبخاصة كل ما من شأنه أن يساهم في تكتل الأهالي حول
هويتهم الأصلية، وتوقيف المد الحضاري العربي الإسلامي في الجزائر وتكسير البنية
الثقافية للمجتمع الجزائري، وفرض الحصار عليه وغلق جميع المنافذ المشرقية التي
يمكن أن يتشكل منها شعاع المعرفة، والوعي العلمي.
وما يمكن
استخلاصه من أهداف السياسة التعليمية الفرنسية:
-
تجهيل السكان من الجزائريين لصالح رفع المستوى العلمي للأوربيين.
-
تنصير كل ما يمكن تنصيره عن طريق نشر المسيحية، والحط من شأن الإسلام
والمسلمين.
-
إحلال اللغة الفرنسية محل اللغة العربية.
وقد وجدت
هذه الأسس طريقها للتطبيق في ظل الإدارة الاستعمارية، ونشر هذه الثقافة
الاستعمارية تتطلب القضاء على كل أفكار معادية لها، ولهذا السياسة التعليمية كانت
تهدف إلى القضاء على الشخصية الوطنية للشعب الجزائري بأبعادها المتعددة، أما
التعليم التبشيري في الجزائر فقد كان يرمي إلى تحقيق الأهداف التالية:
-
القضاء على الدين الإسلامي، واللغة العربية باعتبارها من معوقات العمل
التبشيري.
-
نشر لغة وثقافة المستعمر بين الجماهير الجزائرية باعتبارها أدوات تسهل
للاستعمار البقاء في الجزائر.
-
تكريس الاحتلال والإدماج والقضاء على الثورات الوطنية التي توالت ضد
الاستعمار الفرنسي.
-
تهيئة الأرضية الصالحة لتنصير وإعادة المسيحية إلى الجزائر (أي إحياء
الكنيسةالإفريقية التي اندثرت مند الفتح العربي الإسلامي في النصف الأول من القرن
الأول.
-
التنصير الذاتي، وتكوين نخبة في الجزائر موالية لفرنسا.
-
موازاة التعليم العمومي (المدني الفرنسي )
وفي
الأخير يمكن القول أن المجهودات التي كانت تصب في دعم حركة التنصير في الجزائر مند
بداية الاحتلال اصطدمت بواقع تمثل في نشاط المؤسسات الإسلامية، التي حافظت على
التماسك الاجتماعي والديني أمام نشاط الإرساليات التنصيرية التي كانت تمثل وسيلة
من وسائل الاستعمار،حيث عملت كل ما في وسعها لاستهداف الأسس الدينية للمجتمع
الجزائري
وبذلك
نخلص إلى أن أهداف الاستعمار في الجزائر متعددة وخاصة قضية نشر الثقافة
الاستعمارية والهدف ليس تثقيف الجزائريين،فقد كتب أحدهم من ذوي النظريات الخاصة في
التعليم الفرنسي كلمة صريحة في هذا الصدد حيث قال:" إن أحسن وسيلة لتقييد
الشعوب البدائية في مستعمراتنا، وجعلهم أكثر ولاء وإخلاصهم لخدمةمشاريعنا هو أن
نقوم بتنشئة أبناء الأهالي مند الطفولة، وأن نتيح لهم الفرصة لمعاشرتنا باستمرار،
وبذلك يتأثرون بعاداتنا الفكرية وتقاليدنا، فالمقصود باختصار هو أن نفتح لهم بعض
المدارس لكي تتكيف عقولهم حسبما نريد".
يمكنك
التعمق أكثر في هذا الموضوع من خلال المصادر والمراجع الآتية:
رابح تركي،الشيخ عبد
الحميد بن باديس رائد الإصلاح رائد التربية والإصلاح في الجزائر.
عبد القادر حلوش،سياسة
فرنسا التعليمية في الجزائر.
أبو القاسم سعد الله،
تاريخ الجزائر الثقافي.
ايفون توران،المواجهة
الثقافية في الجزائر المستعمرة المدارس والممارسات الطبية والدين 1830-1880.
أحمد مهساس،الحقائق
الاستعمارية والمقاومة.
بوعزة بوضارسية، سياسة
فرنسا البربربية.
عليوان سعيد،المشروع
الثقافي الاستعماري في الجزائر خلال الثورة التحريرية المباركة.
أبو القاسم سعد
الله،مدراس الثقافة العربية في المغرب 1830 -1954.
عبد الحميد زوزو، نصوص
ووثائق في تاريخ الجزائر.
سليمان سلامة عبد
المالك،أضواء على التبشير والمبشرين.
شاوش حباسي، من مظاهر
الروح الصليبية للاستعمار الفرنسي في الجزائر 1830-1962 م.
محمد الظاهر
وعلي،التعليم التبشيري في الجزائر 1830 إلى 1904.
إسماعيل بن حماد
الجوهري،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية.
محمد مرتضي
الزبيدي،تاج العروس من جواهر القاموس.
عبد الرحمان حبنكة
الميداني،أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها التبشرية الاستشراق الاستعمار.
غي بريفلي،النخبة
الجزائرية الفرنكونية.
أبو القاسم سعد
الله،أبحاث وأراء في تاريخ الجزائر الحديث.
إبراهيم مياسي،مقاربات
في تاريخ الجزائر الحديث 1830—1962.
مصطفى زايد،التنمية
الاجتماعية ونظام التعليم الرسمي في الجزائر (1962-1980).
محمد قريتلي،أضواء على
التنصير في الجزائر (1830- 1892م ).